فإنَّ بَخْسَ أهلِ الحقِّ حقَّهم، والتقليلَ مِنْ قيمتهم التي بوَّأهم اللهُ إيَّاها سبيلُ المعاندين ودربُ الشانئين، عُرِف بها ـ منذ القِدَم ـ الجاحدون لوضوح الحقِّ وضيائه، فلا يحصد منهم ـ في دعوته لهم ـ غيرَ الأحقاد والشنآن، فعن عبد الله بنِ سلامٍ رضي الله عنه أنه حين أَسلمَ ـ وكان حبرًا مِنْ أحبار اليهود ـ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اليَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ، إِنْ عَلِمُوا بِإِسْلَامِي قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ بَهَتُونِي عِنْدَكَ»، فَجَاءَتِ اليَهُودُ وَدَخَلَ عَبْدُ اللهِ البَيْتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ؟» قَالُوا «أَعْلَمُنَا، وَابْنُ أَعْلَمِنَا، وَأَخْيَرُنَا، وَابْنُ أَخْيَرِنَا»، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللهِ؟!»، قَالُوا: «أَعَاذَهُ اللهُ مِنْ ذَلِكَ»، فَخَرَجَ عَبْدُ اللهِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ»، فَقَالُوا: «شَرُّنَا، وَابْنُ شَرِّنَا»، وَوَقَعُوا فِيهِ، [أخرجه البخاري (٤٤٨٠)].
ومِنْ هذا المُنطلَقِ السيِّئ فإنَّ طائفةً ممَّنْ ينسبون أَنْفُسَهم للثقافة والحداثة، ويفتخرون بنيل الشهادات الدنيوية ـ التي لا تعكس حقيقةَ الأمر الواقع ـ فهُم أقربُ إلى الجاهل الذي لا عِلمَ عنده يُحِقُّ به حقًّا أو يُبطِل به باطلًا؛ ومع ذلك يتهجَّمون على الشيخ أبي عبد المُعِزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ مُنتقِصين مِنْ رتبته العلمية، ومُزدَرِين بمردوده وآثاره الإيجابيَّة، في محاولةٍ يائسةٍ لتشويهِ صورته لدى العامَّة والخاصَّة، فيردِّد بعضُهم لبعضٍ مقولةَ: «وماذا قدَّم الدكتور فركوس للجزائر؟!» فهُم أشبهُ بالرافضة: يتناظرون بينهم في المعدوم: هل هو شيءٌ أو ليس بشيء؟
وللجواب عن هذه الفريةِ التي لا تصدر إلَّا مِنْ نفسيَّةٍ مصنِّفةٍ ومتصيِّدةٍ لا تهتمُّ بمقاصد الكلام ومعانيه، ولا بإحسان الظنِّ بالغير ومَرامِيه، وتقترن بها ـ غالبًا ـ لوثةُ حسدٍ يُعمي ويُصِمُّ، كما قِيلَ:
حَسَدُوا الْفَتَى إِذْ لَمْ يَنَالُوا سَعْيَهُ … فَالقَوْمُ أَعْدَاءٌ لَهُ وَخُصُومُ
كَضَرَائِرِ الْحَسْنَاءِ قُلْنَ لِوَجْهِهَا … حَسَدًا وَبَغْيًا إِنَّهُ لَدَمِيمُ
إنَّ كُلِّ مُنصِفٍ لم يحجب الحقدُ بصرَه غطاءً، ولم يمنع الحسدُ بصيرتَه غشاءً، لَيدرِك ـ بأدنى نظرٍ وأقلِّ تأمُّلٍ ـ أنَّ الشيخ أبا عبد المُعِزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ مِنْ أكثر الشخصيَّات الدِّينية في زماننا هذا ـ إِنْ لم يكن أكثرَهم ـ علمًا وعطاءً لبلده الجزائر، على وجه الإطلاق، لا فخرًا على الأقران، ولا عُلُوًّا في الأرض ولا ارتفاعًا بالنفس ولا ابتغاءَ شهرةٍ
:السؤال
تعرَّضتُم بالذِّكرِ في محاضرةِ «نظريَّة المِلكيَّةِ» إلى وجودِ فُروقٍ قائمةٍ بين النَّظريَّةِ الفِقهيَّةِ والقاعدةِ الفقهيَّةِ مِنْ حَيثيَّاتٍ مختلِفةٍ، كما بيَّنتُم أنَّ للقاعدةِ الفقهيَّةِ مميِّزاتٍ أخرى عن القاعدةِ الأصوليَّةِ والضَّابطِ الفقهيِّ، فإِنْ كان بإمكانِكم ـ شيخَنا ـ أَنْ تُبيِّنوا لنا هذه المميِّزاتِ والفُروقَ للحاجةِ إليها، وباركَ اللهُ فيكم.
:الجواب
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد
فللقواعد الفقهيَّة مميِّزاتٌ خاصَّةٌ تنجلي بعقدِ موازنةٍ؛ أوضِّح ـ مِنْ خلالها ـ الفرقَ بينها وبين النَّظريَّات الفقهيَّة أوَّلًا، ثمَّ بينها وبين القواعدِ الأصوليَّة ثانيًا، وأخيرًا بينها وبين الضَّوابطِ الفقهيَّة ثالثًا، في النِّقاط الآتية
أ/ الفرق بين القاعدة الفقهيَّة والنظريَّة الفقهيَّة(١)
يظهر الفرقُ بين القاعدة الفقهيَّة والنظريَّة الفقهيَّة مِنَ الحيثيَّات الآتية
:١ ـ مِنْ حيث الصفةُ
القاعدة الفقهيَّةُ هي عبارةٌ عن قضيَّةٍ كُلِّيَّةٍ أو أغلبيَّةٍ تنطبق على جزئيَّاتِ موضوعها أي: تتضمَّن حكمًا فقهيًّا عامًّا ـ على ما تقدَّم ـ
أمَّا النَّظريَّة فهي موضوعٌ فِقهيٌّ شاملٌ لِمَسائلَ فقهيَّةٍ مُؤلَّفةٍ مِنْ جملةِ عناصرَ تحكمها وحدةٌ موضوعيَّةٌ ذاتُ حقيقةٍ متمثِّلةٍ في: أركانٍ وشروطٍ وأحكامٍ، كنظرية العقد، ونظريةِ المِلكيَّة، ونظريَّةِ الأهليَّة، ونظريَّةِ الإثبات(٢)، ولذلك فالعلاقة الموجودة بين القواعد الفقهيَّة والنَّظريات هي علاقةُ عمومٍ وخصوصٍ وجهيٍّ، فالقاعدة الفقهيَّة أعمُّ مِنَ النَّظريات مِنْ حيثُ نطاقُ تطبيقِها إذ تدخلُ في أبوابٍ شتَّى مِنَ الفقه بخلاف النَّظريَّة فإنَّها لا تدخل إلَّا في بابٍ واحدٍ مِنْ أبوابِ الفقه، ومِنْ جهةٍ أخرى فإنَّ النَّظريَّةَ أعمُّ مِنَ القاعدةِ إذ إنَّ النظريَّةَ الفقهيَّة الواحدةَ قد تتضَّن جملةً مِنَ القواعدِ الفقهيَّة الَّتي تحكم على جزئيَّاتِ موضوعها
:٢ ـ مِنْ حيث النِّطاقُ
القاعدة الفقهيَّة هي مبادئُ وضوابطُ فقهيَّةٌ تتضمَّن حُكمًا عامًّا يُراعى في تخريجِ أحكام الوقائع في حدود النَّظريَّات الكبرى، فمثلًا قاعدةُ: «العِبرةُ في العقود للمقاصدِ والمعاني» ليست سوى ضابطٍ خاصٍّ بناحيةٍ مِنْ نواحي نظريَّة العقد؛ وقاعدةُ: «البيِّنة على المُدَّعي واليمينُ على مَنْ أَنكرَ» تمثِّل ضابطًا خاصًّا مِنْ أحدِ مَناحي «نظريَّة الإثبات»(٣).
:٣ ـ مِنْ حيث التَّكوينُ
القاعدة الفقهيَّة ـ في تكوينها ـ مجرَّدةٌ عن الأركانِ والشروطِ، وتتضمَّن حكمًا واحدًا على الغالب، بخلاف النَّظريَّة الفقهيَّة فهي مشتملةٌ على الأركانِ والشُّروط لزومًا(٤).
:٤ ـ مِنْ حيث ذاتُها
القاعدة الفقهيَّة ـ في ذاتها ـ تتضمَّن حكمًا فقهيًّا، وذلك الحكم يسري على كافَّة الفروع المُندرِجة تحتها، فقاعدةُ: «الضَّرر يُزال» تتضمَّن حكمًا فقهيًّا في كُلِّ مسألةٍ وُجِد فيها الضَّررُ، وقاعدةُ: «اليقينُ لا يزول بالشَّكِّ» تضمَّنَتْ حكمًا فقهيًّا في كُلِّ مسألةٍ اجتمع فيها يقينٌ وشكٌّ
أمَّا النَّظرية الفقهيَّة فلا تتضمَّن حكمًا فقهيًّا في ذاتها، وإنَّما هي عبارةٌ عن مفاهيمَ كُبرى يؤلِّف كُلٌّ منها ـ على حِدَةٍ ـ نظامًا حقوقيًّا موضوعيًّا يحكم عناصرَ ذلك النِّظامِ في كُلِّ ما يتَّصِل بموضوعه، كنظرية المِلْك، والفسخِ والبطلان، والعقد؛ ولمزيدٍ مِنَ البيان فإنَّ صيغةَ «الأمورُ بمقاصدها» يتجلَّى فيها اعتبارُ المقاصد كحكمٍ فقهيٍّ تضمَّنَتْه القاعدةُ الفقهيَّة بخلاف «نظريَّة الباعث»، ومثلُه «العادة محكَّمةٌ» و«نظريَّة العُرف»(٥).
:٥ ـ مِنْ حيث الصِّياغةُ والاستيعابُ
القاعدة الفقهيَّة تمتازُ بالإيجاز في صياغتها لعمومِ معناها وسَعَةِ استيعابها للفروع الجزئيَّة مِنْ أبوابٍ مختلفةٍ(٦) بخلاف النَّظريَّة الفقهيَّةِ فليست حكمًا حتَّى تُوضَعَ لها صياغةٌ، وإنَّما هي موضوعٌ يتميَّز بشموله لجانبٍ واسعٍ مِنَ الفقه الإسلاميِّ، تقوم بين قضاياه ومباحثِه صِلةٌ فقهيةٌ تشكِّل بمجموعها دراسةً موضوعيَّةً في وحدةٍ مُنسجِمةٍ ومُستقِلَّةٍ لذلك الجانبِ الفقهيِّ.
:ب/ الفرق بين القاعدة الفقهيَّة والأصوليَّة
على الرَّغم مِنْ وجود الارتباط الجذريِّ الوثيق بين القاعدة الفقهيَّة والقاعدة الأصوليَّة في دخولهما على مسمَّى أصولِ الشريعة إلَّا أنَّه يظهر التمييزُ بينهما وتتكشَّف مَعالِمُها ـ عند الموازنة بينهما ـ مِنَ الحيثيَّات الآتية
:١ ـ مِنْ حيث صفةُ القاعدة
القاعدة الفقهيَّةُ هي عبارةٌ عن أحكامٍ أغلبيَّةٍ غيرِ مُطَّرِدةٍ قلَّما تخلو مِنْ مُستثنَيَاتٍ في فروع الأحكام التطبيقيَّة الخارجة عنها، وهذه الفروعُ المستثناة مِنَ القاعدة غالبًا ما تمثِّل قواعدَ مستقلَّةً بذاتها أو قواعدَ فرعيَّةً أليقَ بالتَّخريج على قاعدةٍ أخرى، بخلاف القاعدة الأصوليَّة فهي قاعدةٌ كُلِّيَّةٌ تتَّصِف بالشُّمولِ على جميعِ مسائلِها وفروعها بصورةٍ عامَّةٍ(٧)
:السؤال
كيف يُصلِّي الأصمُّ الأبكمُ الَّذي لا يعرف القراءةَ ولا الكتابةَ ولا لغةَ الإشارة؟ وجزاكم اللهُ خيرًا
:الجواب
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد
فالأصمُّ الأبكَمُ: هو الأخرسُ الَّذي لا يتكلَّم ولا يسمع، سواءٌ كان ذلك عند ولادته أم طَرَأ عليه أحَدُهما أو كلاهما بعد ذلك(١)؛ لفقدِه حاسَّةَ السَّمعِ وخاصِّيَّةَ النُّطقِ؛ فحُكمه أَنْ يأتيَ بما أمَرَهُ اللهُ بهِ في حدود الاستطاعةِ ممَّا يُدرِكه مِنْ دِين الإسلام بالنَّظر والرُّؤية الباصرة، أو بما بلَغَه منه قبل طُروءِ الصَّمم إِنْ كان الصَّمَمُ طارئًا عليه ولم يكن مِنَ الولادة، أو بما كان طريقُه إشاراتٍ معيَّنةً تُبيِّنُ له المطلوبَ، أو باللَّمس باليدِ إِنْ كان أعمَى حتَّى يَفهم أَمْرَ الصَّلاةِ المَطلوبةِ، وكذلك إِنْ وُجِدَتْ أجهزةٌ صناعيَّةٌ مُسمِعةٌ خاصَّةٌ بهم أو مُخاطِبةٌ لهم، فإنَّه يجبُ اتِّخاذُها لهذا الغرض ـ إذا كانت في مُتناوَله وقُدرته ـ إذ «ما لا يتمُّ الواجبُ إلَّا به فهو واجبٌ»؛ وعليه فلا يسقطُ عنه ما تيسَّر عليه القيامُ به مِنَ التَّكاليف الشَّرعيَّة لقدرته عليها، وما تعذَّر عليه إدراكُه أو تعسَّر عليه فعلُه فإنَّه يَسقُط عنه لعجزِه عنه ولا يُؤاخَذ به، عملًا بقاعدةِ: «المَعسُورُ لَا يُسقِطُ المَيْسُورَ» لقول الله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَا﴾ [البقرة:٢٨٦]، ولقوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَآ ءَاتَىٰهَا﴾ [الطلاق:٧]، ولقوله تعالى: ﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ﴾ [التغابن: ١٦]، وقولِه تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ﴾ [المائدة: ٦]، وقولِه تعالى: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ﴾ [البقرة:١٨٥]، وقولِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»(٢)، وقد اتَّفق الفقهاءُ على أنَّ مَنْ كان عَاجِزًا عَنِ النُّطقِ لِخَرَسٍ تَسقُطُ عنه الأقوالُ مِنَ الواجبات والأركانِ القوليَّةِ في الصَّلاةِ، ولا يَلزَمُه فيها تحريكُ لسانِه وشفتَيْه بحركةٍ مجرَّدةٍ عن الكلام على الصَّحيح مِنْ أقوال الفقهاءِ لأنَّه عبثٌ وزيادةٌ في الصَّلاة لم يَرِدِ الشَّرعُ به؛ قال ابنُ تيميَّةَ ـ رحمه الله ـ: «وَمَنْ لَمْ يُحْسِنِ القراءةَ ولا الذِّكرَ، أو الأَخرسُ: لا يحرِّكُ لِسانهُ حركةً مُجرَّدةً، ولو قِيلَ: إنَّ الصَّلاةَ تَبطُلُ بذلك كان أَقرَبَ، لأنَّهُ عَبَثٌ يُنافي الخشوعَ وزيادةٌ على غيرِ المَشروعِ» أي: على وجهٍ غيرِ مشروعٍ(٣)
وأمَّا الواجباتُ والأركانُ الفعليَّةُ التي تدخلُ في فهمِه واستطاعتِه وقُدرتِه؛ فإنَّه يَلزَمُه الإتيانُ بها كالقيام والرُّكوع والسُّجود وغيرها
وبهذا يُعلَمُ حكمُ عبادةِ مَنْ وُلِدَ أصمَّ؛ فإنَّما يجب عليه ما أَمكنَ تعليمُه إيَّاهُ مِنَ الأحكام بغير السَّماع بأُذُنَيْه دون ما لم يمكنه فيه فهمُ خطابِ الشَّرع
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا
:السؤال
معلومٌ أنَّ العلماءَ قد بذلوا جهودًا عظيمةً في وضعِ القواعدِ الفقهيَّةِ مِنْ خلالِ استقراءِ الفروعِ، وإحكامِ صِيَغِها بِأحسنِ الصِّياغةِ وأدقِّ العِبارةِ، وتَتبُّعِ ما استُثنِيَ منها مِنْ مسائلَ، فجاءَتْ ـ في جملتِها ـ مُوافِقةً لمقصودِ الشَّارعِ ومُراعِيَةً لِمَصالحِ العِبادِ، واتَّسمَتْ بطابعِ التَّيسيرِ والتَّسهيلِ، لذلك اكتسبَتْ أهمِّيَّةً بارزةً في الفقهِ، فهل بإمكانِ الشَّيخ ـ حَفِظه الله ـ أَنْ يجمعَ هذه الأهمِّيَّةَ في نقاطٍ حتَّى يسهلَ تناوُلها، ويُبيِّنَها لنا ـ ولو بصورة مُقتضَبَةٍ ـ وما تتضمَّنه القواعدُ الفقهيَّةُ مِنْ مميِّزاتٍ وخصائصَ؟ وجزاكم الله خيرًا
:الجواب
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد
فتحظى القواعدُ الفقهيَّةُ ـ بالنَّظر إلى منزلَتِها ومَحَلِّها مِنَ الفقه ـ بمكانةٍ مرموقةٍ في أصول التَّشريع لِمَا تخلِّفه مِنْ آثارٍ بالغةِ الأهمِّيَّة على الدِّراسات الفقهيَّة، وذلك لِمَا تحتويه مِنْ فوائدَ عظيمةٍ وما تتضمَّنه مِنْ خصائصَ متميِّزةٍ في تنظيمِ فروع الفقه الإسلاميِّ
ويمكن أَنْ نتعرَّض لأهمِّ الخصائص الَّتي تمتاز بها القواعدُ الفقهيَّة فيما يلي
١ ـ تجمع القواعدُ شَتاتَ الفروعِ الفقهيَّةِ المُترامِيَةِ الأطراف، والجزئيَّاتِ المُتناثِرةِ والمُنتشِرة على مختلف نواحي الفصول والأبواب في سلكٍ واحدٍ، وتجعلها تحت يد الباحث وفي مُتناوَله، لأنَّ الإحاطةَ بالفروع ضربٌ مِنَ الاستحالة بالنَّظر إلى تعذُّرِ حصرِها مِنْ جهةٍ، وعدمِ ثبوتها في الذِّهن أي: هي سريعة النِّسيان ـ مِنْ جهةٍ ثانيةٍ ـ لِتَشعُّبِها وكثرَتِها؛ وضِمنَ هذا المنظورِ يقول القَرَافيُّ(١): «والقسمُ الثَّاني: قواعدُ كُلِّيَّةٌ فقهيَّةٌ جليلةٌ كثيرةُ العددِ عظيمةُ المَدَدِ مُشتمِلةٌ على أسرار الشَّرع وحِكَمِه، لكُلِّ قاعدةٍ مِنَ الفروع في الشَّريعة ما لا يُحصى، ولم يُذكَر منها شيءٌ في أصول الفقه، وإِنِ اتَّفَقَتِ الإشارةُ إليه هنالك على سبيل الإجمال فبقي تفصيلُه لم يتحصَّل؛ وهذه القواعدُ مُهِمَّةٌ في الفقهِ عظيمةُ النَّفع؛ وبقدرِ الإحاطةِ بها يَعظُم قدرُ الفقيهِ ويَشرُف، ويظهر رونقُ الفقهِ ويُعرَف، وتتَّضِحُ مناهجُ الفتاوى وتُكشَف، فيها تَنافسَ العلماءُ وتَفاضلَ الفُضَلاءُ، وبرَّز القارحُ على الجَذَع(٢)، وحاز قصَبَ السَّبقِ مَنْ فيها بَرَع، ومَنْ جعَلَ يُخرِّج الفروعَ بالمناسبات الجزئيَّةِ دون القواعد الكُلِّيَّةِ تَناقَضَتْ عليه الفروعُ واختلفت، وتزلزلت خواطرُه فيها واضطربت، وضاقت نفسُه لذلك وقَنَطَتْ، واحتاج إلى حفظِ الجُزئيَّات الَّتي لا تتناهى، وانتهى العُمرُ ولم تقضِ نفسُه مِنْ طلبِ مُناها، ومَنْ ضبَطَ الفقهَ بقواعده استغنى عن حِفظِ أكثرِ الجُزئيَّات لِاندِراجِها في الكُلِّيَّات، واتَّحد عنده ما تَناقضَ عند غيرِه وتَناسبَ»(٣)
٢ ـ تُكَوِّنُ القواعدُ الفقهيَّةُ ـ لدى الباحث ـ مَلَكةً علميَّةً قويَّةً، وذلك باستقصاءِ مسائل الفقه بأبوابه المتعدِّدة وربطِها بوحداتٍ موضوعيَّةٍ يجمعها قياسٌ واحدٌ، الأمرُ الذي يساعد على التَّفقُّه وفهمِ أسرار التَّشريع، وحفظِ الفقه وضبطِه، وتلمُّسِ الحكم الشَّرعيِّ في العديد مِنْ مسائل الفقه
قال السيوطيُّ(٤): «اعْلَمْ أنَّ فنَّ الأشباه والنَّظائر فنٌّ عظيمٌ، به يُطَّلَع على حقائق الفقه ومَدارِكِه، ومَآخذِه وأسراره، ويُتمهَّر في فهمه واستحضاره، ويُقتدَر على الإلحاق والتَّخريج، ومعرفةِ أحكام المسائل الَّتي ليست بمسطورةٍ، والحوادثِ والوقائع الَّتي لا تنقضي على ممرِّ الزَّمان»(٥)
٣ ـ تخدم القواعدُ الفقهيَّةُ المقاصدَ الشَّرعيَّةَ العامَّةَ والخاصَّة، وتمهِّد الطَّريقَ إلى إدراك حِكَمِ الأحكام وبواعثها، حيث تعطي مفهومًا جليًّا لمقاصد الشَّريعة، فقاعدةُ: «الضَّرَرُ يُزَالُ» يستفاد منها أنَّ رَفْعَ الضَّررِ مقصدٌ تشريعيٌّ
٤ ـ تنير القواعدُ الفقهيَّة ـ أمامَ دارسِ الفقه ـ السَّبيلَ إلى معرفة الأحكام الشَّرعيَّة المعروضة عليه بدراسة الأبواب الفقهيَّة الواسعة، وترتقي به إلى دراسة النَّظريَّات العامَّة، بحيث تفسح له المجالَ لتطبيقِ ذلك عمليًّا بإيجاد الحلول لكُلِّ القضايا المتجدِّدة والمسائل المتكرِّرة في التَّشريع
٥ ـ تساعد القواعدُ الفقهيَّةُ الباحثَ على تَفادِي التَّناقض الظَّاهريِّ في الأحكام المتشابهة، الَّذي قد يحصل مِنْ جرَّاءِ تتبُّع جزئيَّات الأحكام واستخراجها مِنْ موضوعاتها المختلفة
السؤال:
ذكَرْتُم ـ أَحسنَ اللهُ إليكم ـ في فتوَى سابقةٍ برقم: (1365) موسومةٍ ﺑ «حكم كسوةِ جُدرانِ البيوتِ بالورَق لغرض الزِّينة» ما جاء في الحديث عن عائشةَ رضي الله عنها تُخبِر عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قالت: «رَأَيْتُهُ خَرَجَ فِي غَزَاتِهِ، فَأَخَذْتُ نَمَطًا(١) فَسَتَرْتُهُ عَلَى البَابِ، فَلَمَّا قَدِمَ فَرَأَى النَّمَطَ عَرَفْتُ الكَرَاهِيَةَ فِي وَجْهِهِ، فَجَذَبَهُ حَتَّى هَتَكَهُ أَوْ قَطَعَهُ، وَقَالَ: «إِنَّ اللهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الحِجَارَةَ وَالطِّينَ»؛ قَالَتْ: فَقَطَعْنَا مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ وَحَشَوْتُهُمَا لِيفًا، فَلَمْ يَعِبْ ذَلِكَ عَلَيَّ»(٢)؛ فلِقائلٍ أَنْ يقول ـ بارك اللهُ فيكم ـ: حكمُ هذا هو الإباحةُ مِنْ بابِ أنَّ عائشةَ رضي الله عنها اتَّخذت بعد ذلك مِنْ هذا النَّمَطِ وِسادتَيْن، ولم يُنكِر عليها النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم ذلك، فدلَّ أنَّ الأنماطَ أو الكِسوةَ لا يُكرَه اتِّخاذُها لِذَاتِها، بل لِمَا يُصنَع بها ـ كما أشار إليه بعضُ أهلِ العلمِ عند ذِكرِهم لهذا الحديثِ ـ فهل لهذا ـ حَفِظَكم اللهُ ـ وجهٌ؟
وما رأيُكم فيمَنْ فَرَّق بين الكِسوةِ التي تكون خارِجَ البيتِ أو داخِلَه، فقال
«سِترُ (سُتورُ) الجُدُرِ على قسمَيْن
القسم الأوَّل: أَنْ يكونَ مِنْ ظاهرِ البيت، فيُستَرُ البيتُ أو الحُجرةُ كما تُستَر الكعبةُ، فهذا لا شكَّ أنَّه منهيٌّ عنه؛ لأنَّه يجعل بيتَه شبيهًا بالكعبة
القسم الثَّاني: السِّترُ الدَّاخليُّ مِنْ باطن البيت، فهذا لا بأسَ به إذا احتاجه الإنسانُ، إمَّا للوقاية مِنَ البَرْدِ، أو الوقايةِ مِنَ الحَرِّ، أو الوقايةِ مِنَ الضَّوء أو شعاعِ الشَّمس كما إذا كان يريد أَنْ ينام؛ لأنَّ البناءَ الحديثَ ـ كما تعرفون ـ باردٌ في الشِّتاء وحارٌّ في الصَّيف، فإذا جُعِل على الجدارِ شيءٌ مِنَ القُماش فإنَّه يُخفِّف البرودةَ في الشِّتاء ويُخفِّف الحرارةَ في الصَّيف، فيكون هذا لا بأسَ به؛ لأنَّه ليس المقصودُ مِنْ ذلك السَّترَ لِذاتِه؛ ولكنَّ المقصودَ: ما يحصل مِنَ السَّتر مِنَ التَّدفئةِ في الشِّتاء وتلطيفِ الحرارة في الصَّيف، أو مِنْ حجبِ الضَّوء لِمَن أراد أَنْ ينام على وجهٍ يستريح به في نومه»(٣)، أفيدونا، جزاكم الله خيرًا
:الجواب
الحمد لله ربِّ العالَمِين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد
فقبل الإجابةِ عن الاعتراض المطروح، فأودُّ أَنْ أُبيِّنَ ما يأتي
ـ خروجَ الورَقِ عن معنى الكِسوةِ ـ كما تقدَّم في عنوان الفتوى السَّابقةِ ومضمونِها ـ لأنَّ الوَرَقَ المُزيِّنَ للبيوتِ الذي يُوضَع على الجدران هو في ذاته ليس ثوبًا؛ لأنَّ الكِسوةَ هي الثَّوبُ ونحوُه الذي يُستَرُ ويُحلَّى به؛ ويكون مصنوعًا مِنْ صُوفٍ أو قُطنٍ أو حريرٍ أو قُماشٍ أو نحوِ ذلك.
ـ أنَّ الحديثَ يفيد الكراهةَ لذلك الفعلِ؛ لأنَّ عدَمَ الأمرِ بالشَّيءِ لا يعني ـ بالضَّرورةِ ـ النَّهيَ عنه، وإنَّما غايتُه: نفيُ الأمرِ أي: نفيُ الوجوبِ والاستحباب، فدارَ بين الإباحةِ والنَّهيِ بقِسمَيْه: التَّنزيه والتَّحريم، وإنَّما استُفِيدَتِ الكراهةُ التَّنزيهيَّةُ مِنْ قولِ عائشةَ رضي الله عنها: «عرَفْتُ الكراهِيَةَ في وجهِه»، ومِنْ كونِه جذَبَه وهتَكَه، وقد يكون محرَّمًا لا مِنْ جهةِ كونه سَتْرًا للجُدران وإنَّما مِنْ جهةِ ما إذا كانت فيه صُوَرٌ محرَّمةٌ كذَوَاتِ الأرواحِ أو صُوَرٌ لِمَا لا يجوز النَّظرُ إليه كما سيأتي قريبًا
:السؤال
ترَكَ رجلٌ عند آخَرَ أموالًا وديعةً، فقامَ هذا الأخيرُ بالتَّصرُّفِ في الأموالِ عن طريق التِّجارةِ مِنْ غيرِ إذنِ مالكِها، ثمَّ نتَجَ منها أرباحٌ، فمَنْ هو الأحقُّ بهذه الأرباحِ؟ وجزاكم الله خيرًا
:الجواب
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد
فمِنْ مقتضى الأمانةِ أنَّه يجبُ على المُودَعِ عنده حفظُ المالِ ـ المُتقوَّمِ شرعًا ـ مِنَ التَّلفِ ورعايتُه مِنَ الضَّياعِ سواءٌ كان نقدًا أو متاعًا أو أداةً أو غيرَها؛ لأنَّ المُودَعَ أمينٌ، والأمينُ مؤتمَنٌ على ما تحت يدِه مِنَ المالِ، فلا يحلُّ له أَنْ يتصرَّفَ فيما ائتُمنَ عليه إلَّا بالقَدرِ المأذونِ له فيه، لأنَّ الوديعةَ(١) تخالفُ العاريةَ(٢) في أنَّ الأصلَ عدمُ التَّصرُّفِ في الوديعةِ إلَّا بإذنٍ، بخلافِ العاريةِ فيجوزُ التَّصرُّفُ فيها بالمعروفِ؛ لأنَّها استعارةٌ لغرضِ المُستعِير ومقصودِه؛ ولأنَّ الأصلَ المقرَّرَ في الأموالِ التَّحريمُ، فلا يجوزُ له التَّصرُّفُ في مالِ غيرِه ولو بالشَّيءِ القليلِ اليسيرِ إلَّا بإذنه، لأنَّ القليلَ اليسيرَ يجُرُّ إلى الكثيرِ إلَّا إذا أَذِن له صاحبُه، وفي الحدودِ المسموحِ بها له شرطًا أو عُرفًا؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ [مُسْلِمٍ] إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ [مِنْهُ]»(٣)، وقولِه: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ»(٤)، وقولِه: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، بَيْنَكُمْ حَرَامٌ»(٥)، وقولِه: «لَا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ»(٦).
:السؤال
هل يجوزُ كِسوةُ الجدرانِ بالوَرَقِ المصنَّعِ للبيوتِ قَصْدَ الزِّينةِ، وهي ما تقومُ مَقامَ الدَّهنِ بالطِّلاءِ والصَّبغِ بالألوانِ، وتكونُ كسوةُ الجُدرانِ خاليةً مِنَ الصُّوَر المُحرَّمةِ كذواتِ الأرواحِ، أو صُوَرٍ للنِّساءِ، أو مِنْ رموزٍ كفريَّةٍ ونحوِ ذلك؟ بُورِكْتم.
:الجواب
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد
فقد جاء في الحديث عن عائشةَ رضي الله عنها تُخبِر عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قالت: «رَأَيْتُهُ خَرَجَ فِي غَزَاتِهِ، فَأَخَذْتُ نَمَطًا(١) فَسَتَرْتُهُ عَلَى الْبَابِ، فَلَمَّا قَدِمَ فَرَأَى النَّمَطَ عَرَفْتُ الْكَرَاهِيَةَ فِي وَجْهِهِ، فَجَذَبَهُ حَتَّى هَتَكَهُ أَوْ قَطَعَهُ، وَقَالَ: «إِنَّ اللهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ»؛ قَالَتْ: فَقَطَعْنَا مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ وَحَشَوْتُهُمَا لِيفًا، فَلَمْ يَعِبْ ذَلِكَ عَلَيَّ»(٢).
والوَرَقُ المزيِّنُ للبيوت الذي يُوضَع على الجدران هو في ذاته ليس ثوبًا، لأنَّ الكسوةَ(٣) هي الثَّوبُ ونحوُه الذي يُستَرُ ويُحلَّى به؛ ويكون مصنوعًا مِنْ صُوفٍ أو قُطنٍ أو حريرٍ أو قُماشٍ أو نحوِ ذلك، مثل القميص والسِّروال والجُبَّةِ والإزار والرِّداء والسِّتار والغِطاء والفِراش والبِساط ونحوِها؛ ويدخلُ في معنى الكسوةِ في الحديثِ: البيوتُ المكسوَّةُ بالزَّرابيِّ ذاتِ الأشكالِ والألوانِ المعلَّقةِ على الجدرانِ، أو قاعاتُ الشَّايِ والمأكولاتِ الشَّعبيَّةِ المغطَّاةُ بالخيمةِ على سقفِها ومحيطِ جدرانِها، ونحوُها
:السؤال
جاء في فضلِ الوضوءِ: قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «.. فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ ـ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ ـ حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ»(١)، فهل مَنْ مسَحَ على الخُفَّيْن يحصلُ له هذا الفضلُ؟ أم هو خاصٌّ بمَنْ غسَلَ رِجلَيْهِ فقط دون مَنْ مسَحَ عليهما أو تَيمَّم؟ وجزاكم الله خيرًا
:الجواب
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد
فالظَّاهر أنَّ الفضلَ الواردَ في الوضوءِ ليس قاصرًا على غَسْلِ الرِّجلين بالماءِ، لأنَّ المسحَ على الخُفَّينِ لا يصحُّ إلَّا بغَسْلِ الرِّجلينِ مِنْ طهارةٍ مائيَّةٍ، كما أنَّ الفضلَ المذكورَ في تمامِ الحديثِ حاصلٌ بأصلِ الفِعلِ وهو: الوُضوءُ والغَسْلُ أي: غَسْلُ الرِّجلين فيه أو ببدلَيْه وهما: التَّيمُّمُ والمسحُ على الخُفَّين بشروطِهما، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ»(٢)، فسَمَّاهُ: وَضوءًا كما سمَّاهُ: طيِّبًا، وفي الرِّوايةِ الأخرى سمَّاهُ: طَهورَ المسلم؛ فما حصَلَ بالوُضوء والغَسْل حصَلَ بالتَّيمُّم والمسحِ بشرطَيْهما، ومعلومٌ أنَّه لا يحصلُ على الأجر المذكورِ مَنْ غَسَلَ رِجلَه دون وُضوءٍ، كما لا يحصل عليه كاملًا بمُجرَّدِ غَسْلِ الرِّجل إذا ما كان في وُضوءٍ أساءَهُ صاحِبُه؛ لمفهومِ قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «صَلَاةُ الجَمِيعِ تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَصَلَاتِهِ فِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وَأَتَى المَسْجِدَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ، لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ خَطِيئَةً، حَتَّى يَدْخُلَ المَسْجِدَ، وَإِذَا دَخَلَ المَسْجِدَ كَانَ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَتْ تَحْبِسُهُ، وَتُصَلِّي ـ يَعْنِي: عَلَيْهِ المَلَائِكَةُ ـ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ»(٣)، ولا يخفى أنَّه يبعدُ عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَنْ يَعدِلَ إلى المسحِ على خُفَّيْهِ وعِمامتِه مع قُدرَتِه على غَسْلِ رِجلَيْه لو كان أمرُ غَسْلِ رجلَيْهِ مُفوِّتًا لذلك الفضلِ العظيم.
:السؤال
ذكرتم ـ حَفِظكم الله ـ في الفتوى رقم: (1354) الموسومة ﺑ «حكم زراعةِ صِمَامِ قلبِ خنزيرٍ في جسم المسلم» بأنه «يجوز التَّداوي بالمحرَّمِ أو النَّجِس في حال الاضطرارِ عند تعذُّر تحقُّقِ الشِّفاءِ بدعوةٍ صادقةٍ أو رُقيةٍ نافعةٍ أو بقوَّةِ للقلبِ وحُسنِ التَّوكُّل إلى غير ذلك مِنَ الأسباب الكثيرة غيرِ الدَّواء، وعند تعذُّرِ وجود البديل مِنَ الدَّواءِ المُباحِ أو ما هو دونه في الحُرمة، أمَّا إذا قُدِر على بديلٍ مِنَ المُباح أو ما هو دونه في الحُرمةِ فإنه لا يُصارُ إلى الأشدِّ حرمةً مع القدرة على البديل، لأنَّ «الضرورةَ تُقدَّرُ بقَدْرِها»»، غير أنَّ ما نصَّ عليه ابنُ تيميَّة ـ رحمه الله ـ في شأن التَّداوي: أنه ليس بضرورةٍ، وذكَرَ ـ في ذلك ـ وجوهًا متعدِّدةً أنقلها لكم لأهمِّيَّتِها بطولها وفِقهِها، ومعذرةً.. حيث قال ـ رحمه الله ـ: «… أمَّا إباحتُها للضرورة فحقٌّ، وليس التداوي بضرورةٍ لوجوهٍ: أحَدُها: أنَّ كثيرًا مِنَ المرضى أو أكثرَ المرضى يُشفَوْن بلا تداوٍ لا سيَّما في أهلِ الوبر والقُرى والساكنين في نواحي الأرض، يَشفِيهم اللهُ بما خلَقَ فيهم مِنَ القُوى المطبوعةِ في أبدانهم الرَّافعةِ للمرض وفيما يُيسِّرُه لهم مِنْ نوعِ حركةٍ وعملٍ أو دعوةٍ مستجابةٍ أو رُقيةٍ نافعةٍ أو قوَّةٍ للقلب وحُسنِ التَّوكُّل إلى غيرِ ذلك مِنَ الأسباب الكثيرة غيرِ الدواء؛ وأمَّا الأكلُ فهو ضروريٌّ، ولم يجعل اللهُ أبدانَ الحيوانِ تقوم إلَّا بالغذاء، فلو لم يكن يأكل لَمَاتَ؛ فثبَتَ بهذا أنَّ التَّداوِيَ ليس مِنَ الضرورة في شيءٍ.
وثانيها: أنَّ الأكل عند الضرورة واجبٌ؛ قال مسروقٌ: «مَنِ اضطُرَّ إلى المَيْتة فلم يأكل فمات دخَلَ النَّارَ»؛ والتَّداوي غيرُ واجبٍ؛ ومَنْ نازع فيه خصَمَتْه السُّنَّةُ في المرأة السوداء التي خيَّرها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بين الصبر على البلاء ودخولِ الجنَّة وبين الدُّعاء بالعافية، فاختارت البلاءَ والجَنَّة؛ ولو كان رفعُ المرضِ واجبًا لم يكن للتخيير موضعٌ كدفعِ الجوع؛ وفي دعائه لأُبَيٍّ بالحُمَّى، وفي اختياره الحُمَّى لأهل قُباءٍ، وفي دعائه بفَناءِ أُمَّتِه بالطعن والطاعون، وفي نهيه عن الفرار مِنَ الطاعون؛ وخصَمَه حالُ أنبياءِ الله المُبتَلَيْن الصابرين على البلاء حين لم يتعاطَوُا الأسبابَ الدافعةَ له: مثل أيُّوبَ عليه السلامُ وغيرِه؛ وخصَمَه حالُ السَّلفِ الصَّالح: فإنَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه حين قالوا له: «ألَا ندعو لك الطبيبَ؟» قال: «قد رآني» قالوا: «فما قال لك؟» قال: «إِنِّي فعَّالٌ لِمَا أُريدُ»؛ ومثلُ هذا ونحوُه يُروى عن الربيع بنِ خُثَيْمٍ المُخبِت المُنيب الذي هو أفضلُ الكوفيِّين أو كأفضلِهم، وعمرَ بنِ عبد العزيز الخليفةِ الراشد الهادي المهديِّ وخَلْقٍ كثيرٍ لا يُحصَوْن عددًا؛ ولستُ أَعلَمُ سالفًا أَوجبَ التَّداويَ، وإنما كان كثيرٌ مِنْ أهل الفضل والمعرفة يُفضِّلُ تَرْكَه تفضُّلًا واختيارًا لِمَا اختارَ اللهُ ورضًى به وتسليمًا له؛ وهذا المنصوصُ عن أحمدَ، وإِنْ كان مِنْ أصحابه مَنْ يُوجِبُه ومنهم مَنْ يَستحِبُّه ويرجِّحُه كطريقةِ كثيرٍ مِنَ السلف، استمساكًا لِمَا خلَقَه اللهُ مِنَ الأسباب وجعَلَه مِنْ سُنَّتِه في عِبادِه.
© 2023 fatawaferkous
كتاب الصلاة من صحيح مسلم